طوفان الأقصى وتغيير صورة إسرائيل- من واحة ديمقراطية إلى كيان ملاحق

بسم الله الرحمن الرحيم (وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)، صدق الله العظيم.
منذ اللحظة التي قام فيها الاستعمار الغربي بتأسيس هذا الكيان الصهيوني الغاصب في قلب العالم الإسلامي، مستخدمًا أبشع أساليب العنف والمجازر في عام 1948، ونحن نشهد صراعًا متوازيًا ومستمرًا. هذا العنفَ رافقه صراعٌ محموم على الوعي والرواية، انتشر في أصقاع الدنيا بهدف ترسيخ هيمنة إسرائيل على المنطقة، ودمجها قسرًا في نسيجها. هذا المسعى المشين تأسس على أكاذيب صارخة وتزييف مشين لحقائق الصراع، مستندًا إلى أساطير توراتية لا أساس لها من الصحة، وادعاءات باطلة بأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وترويج لأكاذيب حول الجيش الذي لا يُقهر، فضلاً عن تصوير إسرائيل كواحة للحرية والديمقراطية في منطقة تعاني من الاستبداد، وكصانع للسلام والأمن والاستقرار. هذا من جانب، ومن جانب آخر، بثّ أكاذيب حول بيع الفلسطينيين لأرضهم وتخليهم عنها طواعية.
باختصار شديد، تم الترويج لإسرائيل على أنها نموذج غربي قوي، متقدم، ديمقراطي، إنساني، وأخلاقي، في مواجهة أنظمة عربية ضعيفة، متخلفة، ظلامية، فاسدة، ودكتاتورية.
أصحاب المصالح واللوبيات
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة وسبعين عامًا على هذا الصراع المرير، وبعد أن تسللت هذه الأساطير الخادعة إلى عقول الكثير من العامة وأصحاب المصالح واللوبيات، وعلى وقع الجرائم المروعة ضد الإنسانية التي تُبثّ على الهواء مباشرة أمام مرأى ومسمع العالم أجمع، اتخذت هذه المعركة منحىً معاكسًا. لقد بدأ زيف هذا الغثاء ينكشف، وبدأت الحقيقة المرة والأهداف الخفية لهذا المشروع الاستعماري العنصري تتضح، وبدأ بذلك تفكيكه على مستوى السردية والنموذج الزائف.
لقد تحولت إسرائيل إلى نموذج للعنصرية البغيضة في أبشع صورها، ونموذج للفساد المستشري، وللإرهاب المقيت، وللجرائم المروعة ضد الإنسانية. هي الآن ملاحقة من قبل محكمة العدل الدولية، وملاحقة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وملاحقة في أعرق جامعات العالم، ومن قبل كل أحرار الضمير في هذا العالم.
لقد بنت إسرائيل صورتها الأولى، كما بنت قوة ردعها، على خلفية نجاحاتها الحاسمة والسريعة والتي لا جدال فيها في كل مواجهة سواء كانت عسكرية أو سياسية مع الأنظمة العربية، بدءًا من نكبة عام 1948، مرورًا بنكسة عام 1967، وصولًا إلى اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة واتفاقات أبراهام المشؤومة.
لقد تسرب إلى عقلية النظام العربي، على خلفية هذه المواجهات المتكررة، أنه لا جدوى من مواجهة إسرائيل، وأن إسرائيل هي الحليف القوي للغرب الذي يمكن الاعتماد عليه في حماية مصالح الغرب في المنطقة، وفي حماية الأنظمة العربية نفسها لاحقًا، وأن العرب لا يملكون أي وزن أو تأثير في تقرير مصير هذه المنطقة.
لكن هذا الاتجاه، الذي استقر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ يتغير بشكل ملحوظ منذ أن بدأ الكيان الصهيوني في مواجهة قوى شعبية متجذرة في الجماهير، ومنسجمة مع تاريخ وعقيدة وثقافة الأمة، وتعبر بصدق عن آمالها في الحرية والاستقلال والكرامة.
في كل تلك المواجهات، سواء في فلسطين أو في لبنان، لم تحقق إسرائيل أي نصر حاسم، وتراوحت النتائج بين التعادل المحبط وهزيمة نكراء للعدو.
في أول مواجهة بعد عام 1948 بين عموم الشعب الفلسطيني في الداخل وبين الكيان الصهيوني، في انتفاضة عام 1987 المجيدة، تشوهت صورة الكيان النموذجي الذي فشل على مدار ست سنوات كاملة – رغم استخدامه للعنف المفرط وسياسة تكسير العظام الوحشية – في كسر إرادة شعبنا الأبيّ. عندها اضطر العدو للتصرف بشكل مختلف، واستدار 180 درجة كاملة لتوقيع اتفاق أوسلو المشؤوم مع "م ت ف"، بهدف الالتفاف على الانتفاضة وإجهاضها.
لقد كُتبت آلاف المقالات المضللة لتسويق السلام الجديد والتحالفات الجديدة في الإقليم، ولتلميع الصورة الكاذبة للكيان الصهيوني، بهدف القفز بعيدًا عن القضية الفلسطينية العادلة. لقد تم تصوير إسرائيل كشريك وحليف للأنظمة العربية المعتدلة، تقود محورًا يرسم مستقبل المنطقة لعقود قادمة، في مواجهة العدوّ الجديد المزعوم "إيران" الذي يسعى للسيطرة على الإقليم.
ورغم أن أوسلو لم يكن اتفاقًا للتطبيق، بل كان مؤامرة لإجهاض المقاومة الباسلة في فلسطين والمنطقة، إلا أنه من هنا بدأ منحنى التراجع الإسرائيلي يتضح بشكل جليّ.
فشل ذريع
في كل المواجهات اللاحقة بين العدو وقوى المقاومة، كان العدو يفشل ويتراجع بشكل متزايد، وصولًا إلى الفشل الإستراتيجي الأبرز في "طوفان الأقصى" المبارك الذي قلب هذه المعادلات الشيطانية رأسًا على عقب.
عشية "طوفان الأقصى"، كان ما أُطلق عليه زورًا وبهتانًا "عملية السلام" قد تم تأبينها ودفنها إلى الأبد. كان الانهيار العربي والفلسطيني الرسمي قد وصل إلى الحضيض، حيث اتفاقات أبراهام المخزية مع أربع دول عربية جديدة، ودول أخرى تنتظر في الطابور المذلّة. في الوقت نفسه، تحولت الضفة الغربية إلى "دولة إسرائيل الثانية"، وهي دولة للمستوطنين الصهاينة المتطرفين، مع جدار فصل عنصري بغيض يتلوى كالأفعى السامة، مع أكثر من ستمائة حاجز عسكري صهيوني لتحويل التجمعات الفلسطينية إلى معازل حقيقية لا تطاق. القدس الموحدة تم الاعتراف بها عاصمة أبدية لإسرائيل، مع نقل السفارة الأميركية وغيرها إليها والاستيلاء على بيوتها. المسجد الأقصى المبارك مستباح على مدار الساعة. غزة محاصرة بشكل ظالم على مدار سبعة عشر عامًا. لم يكن أمام الفلسطينيين الأبرياء خيار سوى القتل أو الترحيل أو العمل كعبيد لدى إسرائيل حتى يتمكنوا من العيش.
لم يكن "طوفان الأقصى" منعزلًا عما سبقه من المواجهات الشرسة، لكنه كان مدويًا ومفاجئًا وفشلًا ذريعًا للعدو على كافة المستويات العسكرية والاستخباراتية والسياسية. ولذلك كان الانتقام الهمجي من غزة حاقدًا وكارثيًا وبلا حدود أو أي اعتبار لأي قواعد أخلاقية أو قانونية. هذه الجرائم المروعة، التي تُبثّ مباشرة بالصوت والصورة وتنتقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحولت إلى جرائم ملاحقة من قبل أحرار العالم. تحولت فلسطين إلى بوصلة أخلاقية لهم. تفجر وعي جديد في العالم بعد أن كاد أن يطمس وعيه بفعل طوفان الخداع والأكاذيب الإسرائيلية.
واحة الديمقراطية المزعومة أصبحت ملاحقة من قبل دولة جنوب أفريقيا الشجاعة، ودول أخرى بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في محكمة العدل الدولية، وملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية على ارتكاب جرائم حرب وجرائم الإبادة الجماعية. هي أيضًا متهمة في أعرق جامعات أميركا والغرب بتهم الإبادة الجماعية، ومتهمة من اليهود غير الصهاينة باستغلال معاداة السامية لقمع أي صوت معارض لجرائمها البشعة.
عندما نضع هذه الصورة الجديدة لإسرائيل إلى جانب الانهيار الأمني والعسكري والتخبط السياسي الذي تعيشه، نبدأ بتركيب الصورة الحقيقية لهذا الكيان: كيان عنصري، متوحش، ملاحق، ومهزوم.
ولإيضاح الفجوة الشاسعة بين ما كان عليه الكيان، وما هو عليه الآن، نقارن بعض الأحداث:
- مجرد إعلان الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن إغلاق مضيق باب المندب كان سببًا كافيًا لعدوان عام 1967، وما ترتب عليه من احتلال غزة والضفة وسيناء والجولان. اليوم، جماعة أنصار الله تستهدف السفن الأميركية والبريطانية والإسرائيلية والتجارية المتجهة إلى إسرائيل، وتتحدى البوارج الأميركية والغربية في البحر الأحمر وبحر العرب، دون أن يُسمح لإسرائيل بأي تحرك يُذكر.
- ادعاء محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في المملكة المتحدة كان مبررًا كافيًا لعدوان عام 1982 على لبنان، وإخراج المقاومة الفلسطينية من بيروت، ومذبحة صبرا وشاتيلا المروعة. "طوفان الأقصى" مع آلاف القتلى والجرحى، ومئات الأسرى الإسرائيليين، ورغم الإدانة الأولية له، كان سببًا لتذكير جزء كبير من الرأي العام الدولي بجرائم إسرائيل على مدار خمسة وسبعين عامًا.
- عملية حزب الله وأسر جنود صهاينة في يوليو/ تموز عام 2006 كانت كافية لعدوان إسرائيلي شامل على لبنان وتدمير مناطق تمركز حزب الله. اليوم، حزب الله كل يوم تقريبًا يوقع خسائر تفوق أهميتها عملية يوليو/ تموز، والعدو يتكتم عليها ويتستر عليها.
- المنازلة مع الجمهورية الإسلامية وحجم الرد الإيراني الشجاع على قصف مبنى القنصلية في دمشق، شطب سنوات من العربدة الصهيونية في الشام والمفاعل النووي العراقي، وحمامات الشط التونسي، وأرسى معادلة الردع المتبادل، وأظهر العدو في حجمه الحقيقي بأنه يحتاج الحماية الأمريكية الكاملة.
المقاومة بخير
قد يتساءل البعض عن مستقبل القضية الفلسطينية العادلة وعن مستقبل المقاومة الباسلة في فلسطين بعد الخسائر الفادحة التي تكبدتها قلعة المقاومة في غزة.
من نافلة القول إنه لا يمكن الحديث عن مستقبل المقاومة الفلسطينية بمعزل عن التغيرات الدولية والإقليمية المتسارعة:
- الوضع في العالم يتحرك بشكل مضطرد، وأميركا المنخرطة في صراعات وتنافس شرس مع روسيا والصين ليست في أحسن أحوالها. روسيا تكتشف كل يوم أهمية بناء تحالفاتها المتينة مع دول الجنوب المسلم.
- الإقليم يعود إلى حقائق الجغرافيا والتاريخ الراسخة، حيث تعيش ثلاث كتل بشرية رئيسية: العرب، والترك، والفرس - لا يمكن تهميش أي منها - لها مصالح مشتركة على مدار التاريخ. عمل الغرب الاستعماري الخبيث على إضعافها جميعًا لتأجيج الفرقة والخلاف والصراع بينها، وكانت إسرائيل جزءًا أساسيًا من هذه المؤامرة لضرب أي محاولة للتقارب والمصالحة بينها.
إن ضعف إسرائيل وانهيار ردعها وتقلص وزنها الإستراتيجي ينعكس بشكل إيجابي على زيادة التفاهم بين دول المنطقة، والبحث عن المصالح المشتركة واستقرار المنطقة بعيدًا عن هيمنة أميركا وإسرائيل، الأمر الذي سيضطرها للتصرف بشكل مختلف حتى في الملف الفلسطيني.
ثم إن صراع الشعب الفلسطيني مع الكيان الصهيوني في المرحلة القادمة سينصبُّ أساسًا على مستقبل الضفة الغربية المحتلة. ليس هنالك أي أفق لمفاوضات سياسية حول مستقبل الضفة التي تزدحم بالمستوطنات والمستوطنين المسلحين. الفجوة بين السلطة الفلسطينية الهزيلة في رام الله، والموقف الإسرائيلي المتصلب حول مستقبل الضفة لا يمكن ردمها أبدًا.
لهذه العوامل وغيرها، فإن المقاومة في فلسطين ستبقى بخير، وستظل هي من يقرر مستقبل إسرائيل ومستقبل المنطقة بأسرها، حيث لا سلام ولا استقرار حقيقيين دون أن يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة غير منقوصة.
